فى نزهة بحرية قرب شواطئ بَحْرى «إيجه والمتوسط»، أقنعنى صديقى المهندس المصرى عصام عونى، وعالمة السياسة التركية نجلاء تشرجى، أن أكف عن الكتابة عن مصر، وأن أنقل للقراء العرب انطباعاتى عن تركيا فى ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، ذى المرجعية الإسلامية، والتى يرأسها الطيب أردوجان، والذى أصبح البعض فى تركيا يلقبونه بالباشا!
وكانت الأخبار، قبل هذه النزهة بأيام، قد نوّهت بمُعدل التنم&iacuatilde;ية الاقتصادية فى تركيا، وهو ٩% سنوياً، مما يضعها فى المركز الأول أوروبياً، وشرق أوسطياً، وفى مصاف الاقتصاديين الأسرع نمواً فى العالم، وهما الصين والهند، وكان هذا الإنجاز فى ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، هو الرد الحاسم على استمرار الغرب لرفض عضوية تركيا فى «الاتحاد الأوروبى». ورغم الأسباب الوجيهة التى ذكرها الاتحاد لقرار الرفض، فإن رئيس الوزراء التركى كان أكثر صراحة فى التعليق على القرار، «بأن الاتحاد حريص على أن يظل نادياً خاصاً للبُلدان ذات الأغلبية المسيحية»!
ولكن الطيب أرضوغان لم يكتف بالرد اللفظى، ولكنه اندفع بالسياسة الخارجية التركية شرقاً، نحو جمهوريات آسيا الوسطى، وجنوباً نحو إيران والعالم العربى، أكثر من ذلك، بدأ هو وحزبه حديثاً عن أمجاد الإمبراطورية العثمانية، حيث كانت نموذجاً مُبكراً «للعولمة» (Globalization)، وضاعف من هذه النزعة لإحياء الأمجاد العثمانية، المواقف الأخيرة التى اتخذتها حكومة أرضوغاننحو القضية الفلسطينية وإسرائيل، خاصة منذ واقعة «أسطول الحُرية» لفك الحصار عن غزة، وهو ما جعل رجب الطيب أردوجان، الزعيم الأكثر شعبية، طبقاً لآخر استفتاءات الرأى العام العربى.
ومن طرائف الأمور أن هذه التطورات على الساحة السياسية، تزامنت مع الشعبية المتزايدة للدراما التليفزيونية التركية، وتمتلئ شوارع اسطنبول هذه الأيام بالسُياح المصريين والعرب، وحينما سألت بعضهم عن سر هذا الإقبال على زيارة تركيا، كانت معظم الإجابات تدور حول الإحساس بالألفة الثقافية، وتشابه الكوزين (المطبخ والأطعمة) التركية. كما جاء بعضهم لرؤية الفيلا التى تم فيها تصوير مسلسل «نور» على شواطئ البسفور، والذى حوّلته وزارة السياحة التركية إلى أحد المزارات السياحية، أسوة بالقصور والمساجد والقلاع العثمانية الشهيرة!
ولكن مآثر حزب العدالة والتنمية، فى ظل الطيب أردوجان، تجاوزت التنمية الاقتصادية المُبهرة، إلى التخفيف التدريجى من الأيديولوجية الكمالية، التى كانت قد تطرقت واشتطت فى علمانيتها (١٩٢٠-١٩٤٦). فقد أعادت للدين الإسلامى (٩٩% من السكان) الاعتبار، وضمن ذلك حُرية اختيار الزى للنساء، وكلما كشّرت المؤسسة الكمالية التى تتكون من القوات المُسلحة والمحكمة العُليا وجامعة اسطنبول والبيروقراطية عن أنيابها، اعتراضاً على سياسة معينة، كان أرضوغانيطرح الأمر على الشعب التركى، فى استفتاء عام، وكان يحظى بتأييد الأغلبية فى كل مرة، وهو ما جعل المؤسسة الكمالية تكظم غيظها، وتقبل الأمر فى النهاية.
كذلك نجح أرضوغانبحزب العدالة والتنمية فى التعامل مع مشكلتى الأرمن والأكراد، بالاعتراف بحقوقهم الثقافية، والحوار مع زعمائهم على ترتيبات للحكم الذاتى، فى إطار فيدرالى، وهو ما خفف من حدة المواجهات المُسلحة مع بعضهم، والتى بدأت واستمرت منذ ثلاثين عاماً.
«والعثمانية الجديدة»، كما ينسجها حزب العدالة والتنمية، تنطوى على قدر كبير من «الأبوية» و«الأخوية»، وتكاد تخلو تماماً من التعالى أو «الغطرسة التركية»، والتى دأبت الأفلام المصرية القديمة (أبيض وأسود) على تصويرها والسخرية منها!
ويعتمد الطيب أرضوغانوحزب العدالة والتنمية على قاعدة شعبية فى أرياف الأناضول، وعلى طبقة جديدة من التجار فى المدن الصغيرة والمتوسطة، والتى أصبحت تسمى «بالرأسمالية الخضراء»، والتى أصبح نصيبها من حجم الاقتصاد التركى فى تزايد مستمر، وأصبح لها بنوكها وشركاتها الاستثمارية، جنباً إلى جنب مع أقرانها من المؤسسات الوطنية والعالمية.
ومن الطبيعى أن تشعر المؤسسة الكمالية (الجيش والقضاء والجامعة والخدمة المدنية) بالتهديد، فقد اتضح لها فى السنوات العشر الأخيرة، أن سُلطتها التى كرّستها خلال ثمانين عاماً (١٩٢٠-٢٠٠٠) بدأت تتآكل تدريجياً، وبشكل سلمى، من خلال صندوق الانتخابات، والشاهد أن ذلك أو شيئاً مُشابهاً له قد حدث فى المغرب والكويت فى عالمنا العربى، خلال نفس السنوات العشر، كما أن نفس الشىء كان قد حدث منذ عشرين عاماً فى إندونيسيا، وماليزيا، وبنجلاديش، ولكن استمرار المُمارسة الديمقراطية، والتمسك بقواعدها، أدى إلى إخراج الإسلاميين من السُلطة، وأيضاً بشكل سلمى.
وفى حديث مع عدد من أصدقائى القدامى من المثقفين العلمانيين الأتراك، أدهشنى بعضهم حينما تحسروا على نضالهم القديم ضد الدكتاتورية العسكرية، التى حكمت تركيا فى الثمانينيات ثم مرة أخرى فى التسعينيات من القرن الماضى، حيث إن الذى استفاد من عودة الحكم المدنى الديمقراطى هى الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية مثل حزب «الفضيلة» وحزب «العدالة»، وأخيراً حزب «العدالة والتنمية»، وكلما كان يفوز أحد هذه الأحزاب، كان «الكماليون» يذهبون إلى المحكمة العُليا التركية، ويستصدرون حُكما بعدم شرعية الحزب، وبرنامجه الانتخابى، أو قياداته، ومع ذلك فإن الإسلاميين الأتراك كانوا يُحنون رؤوسهم للعاصفة، ثم يعودون تحت اسم جديد، أو برنامج جديد.
إن هذه المُثابرة، بلا مَلَل ولا كلَل من الإسلاميين الأتراك خلال الأربعين سنة الأخيرة، جديرة بالتأمل والمُقارنة مع الإخوان المسلمين فى مصر، فهناك أوجه شبه وإعجاب مُتبادل بين الطرفين.
بل إن الإسلاميين الأتراك لم يبدأوا مسيرتهم نحو السُلطة إلا فى ستينيات القرن الماضى أى بعد الإخوان المسلمين فى مصر (١٩٢٨) بحوالى أربعين عاماً، ومع ذلك أثمرت مسيرتهم إلى حينه، أكثر مما أثمرت جماعة الإخوان، ربما كان ذلك لأن المجتمع التركى عموماً أكثر «حداثة» و«تطوراً» من المجتمع المصرى، بُحكم قربه من أوروبا وبفضل التراكم التنموى الذى بدأ مع ثورة مصطفى كمال أتاتورك (١٩٢٠-١٩٤٦)، بينما تشتّتت هذه المسيرة، سواء بعد ثورة ١٩١٩ «الليبرالية»، أو بعد ثورة ١٩٥٢ الناصرية الاشتراكية.
وربما كان النجاح الأوفر للإسلاميين الأتراك هو بسبب مرونتهم وقدرتهم على التكيف مع المتغيرات الداخلية (فى تركيا) والخارجية (وخاصة فى الغرب)، من ذلك أنهم لم يهتموا كثيراً بالشعارات، ولم يصرّوا أبداً على إقحام لغة الخطاب الإسلامى، بل يكاد يكون العكس هو الصحيح مع أرضوغانوحزب العدالة والتنمية، فهما دائماً ينفيان أن الحزب «دينى» أو «إسلامى»، وبذلك- لا فقط- بدّد مخاوف الطبقة الوسطى والنساء فى الداخل، ولكن أيضاً مخاوف كثير من الأوساط فى الخارج الأوروبى الأمريكى..
ولم يتدخل الحزب، لا قبل ولا بعد المجىء للسُلطة، فى أسلوب الحياة الشخصية للأتراك، نساء أو رجالاً. فمن اختارت من النساء ارتداء غطاء الرأس أو الحجاب، كان لهن ذلك، ولكنه لم يؤثر على وجود وانتشار كل صور الترفيه الأخرى، بما فيها ما يُعتبر «مجوناً»، فإلى جانب «الأذان» الموحد الذى تصدح به كل مآذن تركيا خمس مرات يومياً، هناك نوادى الموسيقى الغربية الصاخبة والملاهى الليلية للرقص الشرقى، إن هذا التعايش السلمى بين أساليب حياة متنوعة هو أحد مباهج تركيا فى الوقت الراهن.
والله أعلم